تفسير الخطيب الشربيني - ج ٤

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري

تفسير الخطيب الشربيني - ج ٤

المؤلف:

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4207-0

الصفحات: ٧٢٨

ثم إنّ الله تعالى سلى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله تعالى : (هَلْ أَتاكَ) يا أشرف الخلق (حَدِيثُ مُوسى) أي : أليس قد أتاك حديثه ، فيسليك على تكذيب قومك ويهدّدهم عليه بأن يصيبهم مثل ما أصاب من هو أعظم منهم ، فإنه كان أقوى أهل الأرض بما كان له من كثرة الجنود فلما أصرّ على التكذيب ولم يرجع ولا أفاده التأديب أغرقناه وآله ، ولم نبق منهم أحدا ، وقد كانوا لا يحصون عددا بحيث قيل : إنّ طليعته كانت على عدد بني إسرائيل ستمائة ألف فكيف بقومك الضعاف.

وقوله تعالى : (إِذْ) أي : حين (ناداهُ) منصوب بحديث لا بأتاك (رَبُّهُ) أي : المحسن إليه بالرسالة وغيرها (بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ) أي : المطهر غاية الطهر بتشريف الله تعالى له بإنزال النبوّة المفيضة للبركات. وقوله تعالى : (طُوىً) اسم الوادي وهو الذي طوي فيه الشرّ عن بني إسرائيل ، ومن أراد الله تعالى من خلقه ونشر فيه بركات النبوّة على جميع أهل الأرض المسلم بإسلامه وغيره برفع عذاب الاستئصال عنه ، فإن العلماء قالوا : إنّ عذاب الاستئصال ارتفع حين أنزلت التوراة ، وهو واد بالطور بين إيلة ومصر ، وقرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو بغير تنوين في الوصل والباقون بالتنوين.

وقوله تعالى : (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ) أي : ملك مصر الذي كان يستعبد بني إسرائيل على إرادة القول (إِنَّهُ طَغى) أي : تجاوز الحدّ في الكفر وعلا وتكبر.

وقال الرازي : لم يبين أنه طغى في أي شيء ، فقيل : تكبر على الله تعالى وكفر به ، وقيل : تكبر على الخلق واستعبدهم.

وروي عن الحسن رضي الله عنه قال : كان فرعون علجا من همدان ، وقال مجاهد رضي الله عنه : كان من أهل إصطخر. وعن الحسن أيضا : كان من أصبهان يقال له : ذو الظفر طوله أربعة أشبار.

وقوله تعالى : (فَقُلْ) أي : له (هَلْ لَكَ) أي : هل لك سبيل (إِلى أَنْ تَزَكَّى) أي : تتطهر من الكفر والطغيان. قال ابن عباس رضي الله عنهما : بأن تشهد أن لا إله إلا الله. وقال أبو البقاء : لما كان المعنى أدعوك جاء بإلى ، وقال غيره : يقال هل لك في كذا ، وهل لك إلى كذا كما تقول : هل ترغب فيه وهل ترغب إليه. وقرأ نافع وابن كثير بتشديد الزاي ، والأصل تتزكى والباقون بتخفيفها.

(وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ) أي : وأنبهك على معرفة المحسن إليه (فَتَخْشى) لأنّ الخشية لا تكون إلا بالمعرفة قال الله تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [فاطر : ٢٨] أي : العلماء به ، وذكر الخشية لأنها ملاك الأمر من خشي الله تعالى أتى منه كل خير ، ومن أمن اجترأ على كل شرّ. ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من خاف أدلج ، ومن أدلج بلغ المنزل» (١) بدأ بمخاطبته بالاستفهام الذي معناه العرض كما يقول الرجل لضيفه : هل لك أن تنزل بنا ، وأردفه الكلام الرفيق ليستدعيه للتلطف في القول ويستنزله بالمداراة من علوه كما أمر بذلك في قوله تعالى : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) [طه : ٢٥] الآية. وقال الرازي : سائر الآيات تدل على أنه تعالى لما نادى موسى عليه‌السلام ذكر له أشياء كثيرة (نُودِيَ

__________________

(١) أخرجه الترمذي في القيامة حديث ٢٤٥٠ ، والحاكم في المستدرك ٤ / ٣٠٨ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٨ / ٤٤١ ، ١٠ / ١٧٩ ، ٢٥٩ ، والسيوطي في الدر المنثور ١ / ٣٧.

٥٤١

يا مُوسى (١١) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) [طه : ١١ ـ ١٢] إلى قوله تعالى : (لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (٢٣) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) [طه : ٢٣ ـ ٢٤] فدل قوله تعالى : (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) أنه من جملة ما ناداه به لا كل ما ناداه به ، وأيضا فليس الغرض أنه عليه‌السلام كان مبعوثا إلى فرعون فقط ، بل إلى كل من كان في الطور إلا أنه خصه بالذكر لأنّ دعوته جارية مجرى كل القوم.

والفاء في قوله تعالى : (فَأَراهُ) عاطفة على محذوف يعني : فذهب فأراه (الْآيَةَ الْكُبْرى) كقوله تعالى : (اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ) [البقرة : ٦٠] أي : فضرب فانفجرت.

واختلفوا في الآية الكبرى أي : العلامة العظمى وهي المعجزة. فقال عطاء وابن عباس رضي الله عنهم : هي العصا. وقال مقاتل والكلبي رضي الله عنهما : هي اليد البيضاء تبرق كالشمس ، والأوّل أولى لأنه ليس في اليد إلا انقلاب لونها ، وهذا حاصل في العصا لأنها لما انقلبت حية لا بدّ أن يتغير اللون الأوّل ، فإذن كل ما في اليد فهو حاصل في العصا ، وأمور أخر وهي الحياة في الجرم الجمادي وتزايد أجزائه ، وحصول القدرة الكبيرة والقوّة الشديدة وابتلاعها أشياء كثيرة وزوال الحياة والقدرة عنها ، وذهاب تلك الأجزاء التي عظمت ، وزوال ذلك اللون والشكل اللذين صارت العصا بهما حية ، وكل واحد من هذه الوجوه كان معجزا مستقلا في نفسه ، فعلمنا أنّ الآية الكبرى هي العصا. وقال مجاهد رضي الله عنه : هي مجموع العصا واليد ، وقيل : فلق البحر ، وقيل : جميع آياته التسع.

(فَكَذَّبَ) أي : فتسبب عن رؤيته ذلك أن كذب موسى عليه‌السلام (وَعَصى) الله تعالى بعد ظهور الآية وتحقيق الأمر ، وقيل : كذب بالقول وعصى بالتمرّد والتجبر.

(ثُمَّ أَدْبَرَ) أي : تولى وأعرض عن الإيمان بعد المهل والأناة إعراضا عظيما بالتمادي على أعظم ما كان فيه من الطغيان بعد خطوب جليلة ومشاهد طويلة ، حال كونه (يَسْعى) أي : يعمل بالفساد في الأرض ، أو أنه لما رأى الثعبان أدبر مرعوبا يسعى أي : يسرع في مشيته. قال الحسن رضي الله عنه : كان رجلا طياشا خفيفا ، وتولى عن موسى عليه‌السلام يسعى ويجتهد في مكايدته ، أو أريد : ثم أقبل يسعى كما تقول : أقبل فلان يفعل كذا بمعنى أنشأ يفعل ، فوضع أدبر موضع أقبل لئلا يوصف بالإقبال.

(فَحَشَرَ) أي : فتسبب عن إدباره أنه جمع السحرة للمعارضة وجنوده للقتال (فَنادى) حينئذ بأعلى صوته. قال حمزة الكرماني : قال له موسى عليه‌السلام : إنّ ربي أرسلني إليك لئن آمنت بربك تكون أربعمائة سنة في النعيم والسرور ، ثم تموت فتدخل الجنة فقال : حتى أستشير هامان فاستشاره ، فقال : أتصير عبدا بعدما كنت ربا ، فعند ذلك جمع بعث الشرط وجمع السحرة والجنود.

فلما اجتمعوا قام عدوّ الله على سريره (فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) أي : لا رب فوقي ، وقيل : أراد أنّ الأصنام أرباب وأنا ربها وربكم ، وقيل : أمر مناديا فنادى في الناس بذلك ، وقيل : قام فيهم خطيبا فقال ذلك.

(فَأَخَذَهُ اللهُ) أي : أهلكه بالغرق الملك الأعظم الذي لا كفء له (نَكالَ) أي : عقوبة (الْآخِرَةِ) أي : هذه الكلمة وهي قوله (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى. وَالْأُولى) وهي قوله : (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) [القصص : ٣٨]. قال ابن عباس رضي الله عنهما : وكان بين الكلمتين

٥٤٢

أربعون سنة ، والمعنى : أمهله في الأولى ثم أخذه في الآخرة فعذبه بكلمتيه. وقال الحسن رضي الله عنه : (نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى) هو أن أغرقه في الدنيا وعذبه في الآخرة. وعن قتادة رضي الله عنه : الآخرة هي قوله : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) والأولى تكذيبه لموسى عليه‌السلام.

ثم إنه تعالى ختم هذه القصة بقوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي : الأمر العظيم الذي فعله فرعون والذي فعل به حين كذب وعصى (لَعِبْرَةً) أي : لعظة (لِمَنْ يَخْشى) أي : لمن يخاف الله تعالى لأنّ الخشية أساس الخير كما مرّت الإشارة إليه.

ثم خاطب تعالى منكري البعث بقوله تعالى :

(أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (٢٩) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (٣٠) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (٣١) وَالْجِبالَ أَرْساها (٣٢) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٣) فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (٣٤) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (٣٥) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (٣٦) فَأَمَّا مَنْ طَغى (٣٧) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (٣٨) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (٣٩) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (٤١) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (٤٢) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (٤٣) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (٤٤) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (٤٥) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (٤٦))

(أَأَنْتُمْ) أي : أيها الأحياء مع كونكم خلقا ضعيفا (أَشَدُّ خَلْقاً) أي : أخلقكم بعد الموت أشدّ في تقديركم (أَمِ السَّماءُ) أي : فمن قدر على خلق السماء على عظمها من السعة والكبر والعلوّ والمنافع قدر على الإعادة ، وهذا كقوله تعالى : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) [غافر : ٥٧] ، والمقصود من الآية الاستدلال على منكري البعث ، ونظيره قوله تعالى : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) [يس : ٨١] ومعنى الكلام التقريع والتوبيخ ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وهشام بخلاف عنه بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية ، والباقون بتحقيقهما ، وأدخل بينهما ألفا قالون وأبو عمرو وهشام ، والباقون بغير إدخال.

وقوله تعالى : (بَناها) بيان لكيفية خلقه إياها فالوقف على السماء والابتداء بما بعدها وقوله تعالى : (رَفَعَ سَمْكَها) جملة مفسرة لكيفية البناء ، والسمك الارتفاع أي : جعل مقدارها في سمت العلوّ مديدا رفيعا مسيرة خمسمائة عام (فَسَوَّاها) أي : فعدلها مستوية ملساء ليس فيها تفاوت ولا فطور ، أو فتممها بما علم أنها تتم به وأصلحها من قولك : سوّى فلان أمر فلان.

(وَأَغْطَشَ) أي : أظلم (لَيْلَها) أي : جعله مظلما بغياب شمسها فأخفى ضياءها بامتداد ظل الأرض على كل ما كانت الشمس ظهرت عليه ، فصار لا يهتدي معه إلى ما كان في حال الضياء ، وأضاف الليل إلى السماء لأنّ الليل يكون بغروب الشمس والشمس تضاف إلى السماء. ويقال : نجوم الليل ، لأنّ ظهورها بالليل.

وقوله تعالى : (وَأَخْرَجَ ضُحاها) فيه حذف ، أي : ضحى شمسها ، أو أضاف الليل والضحى لها للملابسة التي بينها وبينهما لأنّ الليل ظلها والشمس هي السراج المثقب في جوّها ، وإنما عبر عن النهار بالضحى ؛ لأنّ الضحى أكمل أجزاء النهار بالنور والضوء.

(وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ) أي : بعد المذكور كله (دَحاها) أي : بسطها ومهدها للسكنى وبقية المنافع ، وكانت مخلوقة قبل السماء من غير دحو فلا معارضة بينها وبين آية فصلت ؛ لأنه خلق

٥٤٣

الأرض أولا غير مدحوة ثم خلق السماء ، ثم دحا الأرض. قال ابن عباس رضي الله عنهما : خلق الله تعالى الأرض بأقواتها من غير أن يدحوها قبل السماء فسوّاها سبع سموات ثم دحا الأرض بعد ذلك. وقيل : معناه والأرض مع ذلك دحاها كقوله تعالى : (عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ) [القلم : ١٣] أي : مع ذلك ، ومنه قولهم : أنت أحمق ، وأنت بعد هذا سيء الخلق.

وقيل : بعد بمعنى قبل كقوله تعالى : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) [الأنبياء : ١٠٥] أي : من قبل ، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : خلق الله تعالى الكعبة ووضعها على الماء على أربعة أركان قبل أن يخلق الدنيا بألفي عام ، ثم دحيت الأرض من تحت البيت.

(أَخْرَجَ مِنْها) أي : الأرض (ماءَها) أي : بتفجير عيونها ، وإضافتها إليها دليل على أنه مودوع فيها (وَمَرْعاها) أي : النبات الذي يرعى مما يأكله الناس والأنعام من العشب والشجر والثمر والحب حتى النار والملح ، لأنّ النار من العيدان قال تعالى : (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ) [الواقعة : ٧١] الآية ، والملح من الماء ، واستعير الرعي للإنسان كما استعير الرتع في قوله تعالى عن إخوة يوسف عليه‌السلام : (يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ) [يوسف : ١٢] والمرعى في الأصل موضع الرعي.

تنبيه : أخرج حال بإضمار قد أي : مخرجا ، وإضمار قد هو قول الجمهور وخالف الكوفيون والأخفش.

(وَالْجِبالَ أَرْساها) أي : أثبتها على وجه الأرض لتسكن ، ونظيره قوله تعالى : (وَالْجِبالَ أَوْتاداً) [النبأ : ٧] وقوله تعالى : (مَتاعاً) مفعول له لمقدّر ، أي : فعل ذلك منفعة أو مصدر لعامل مقدّر أي : متعكم تمتيعا. (لَكُمْ) وقوله تعالى : (وَلِأَنْعامِكُمْ) جمع نعم وهي الإبل والبقر والغنم ، وذكر الأنعام لكثرة الانتفاع بها.

(فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى) أي : الداهية التي تطم على الدواهي أي : تعلو وتغلب ، وفي أمثالهم : جرى الوادي فطم على القرى ، قال ابن عباس : وهي النفخة الثانية التي يكون معها البعث. وقال الضحاك : هي القيامة سميت بذلك لأنها تطم على كل شيء فتغمره. وقال القاسم بن الوليد الهمداني : هي الساعة التي يساق فيها أهل الجنة إلى الجنة ، وأهل النار إلى النار.

وقوله تعالى : (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ) أي : تذكرا عظيما (الْإِنْسانُ) أي : الخلق الآنس بنفسه الغافل عما خلق له بدل من إذا (ما سَعى) في الدنيا من خير أو شرّ ، يعني : إذا رأى أعماله مدوّنة في كتابه تذكرها ، وكان قد نسيها كقوله تعالى : (أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ) [المجادلة : ٦] وما في (ما سَعى) موصولة أو مصدرية.

(وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ) أي : أظهرت النار المحرقة إظهارا بينا مكشوفا (لِمَنْ يَرى) أي : لكل راء ، كقولهم : قد تبين الصبح لذي عينين ، يريدون لكل من له بصر ، وهو مثل في الأمر المنكشف الذي لا يخفى على أحد ، لكن الناجي لا ينصرف بصره إليها فلا يراها ، كما قال تعالى : (لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها) [الأنبياء : ١٠٢].

وجواب إذا قوله : (فَأَمَّا مَنْ طَغى) أي : تجاوز الحد في العدوان حتى كفر بربه (وَآثَرَ) أي : قدّم واختار (الْحَياةَ الدُّنْيا) أي : انهمك فيها ولم يستعدّ للآخرة بالعبادة وتهذيب النفس (فَإِنَّ الْجَحِيمَ) أي : النار الشديدة التوقد العظيمة (هِيَ) أي : خاصة (الْمَأْوى) أي : مأواه كما تقول للرجل : غض الطرف ، تريد طرفك ، وليست الألف واللام بدلا عن الإضافة ، ولكن لما علم أنّ

٥٤٤

الطاغي هو صاحب المأوى ، وأنه لا يغض الرجل طرف غيره تركت الإضافة.

تنبيه : (هِيَ) يجوز أن تكون فصلا أو مبتدأ.

(وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) أي : قيامه بين يديه لعلمه بالمبدأ وبالمعاد ، وقال مجاهد : خوفه في الدنيا من الله تعالى عند مواقعة الذنب فيقلع عنه نظيره (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) [الرحمن : ٤٦](وَنَهَى النَّفْسَ) أي : الأمارة بالسوء (عَنِ الْهَوى) وهو اتباع الشهوات وزجرها عنها وضبطها بالصبر والتوطين على إيثار الخير.

(فَإِنَّ الْجَنَّةَ) أي : البستان لكل ما يشتهى (هِيَ) أي : خاصة (الْمَأْوى) أي : ليس له سواها مأوى ، وحاصل الجواب أنّ العاصي في النار والطائع في الجنة. قال الرازي : هذان الوصفان مضادان للوصفين المتقدّمين فقوله تعالى : (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) ضد قوله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ طَغى. وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى) ضد قوله تعالى : (وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا) فكما دخل في ذينك الوصفين جميع القبائح دخل في هذين الوصفين جميع الطاعات. وقال عبد الله بن مسعود : أنتم في زمان يقود الحق الهوى ، وسيأتي زمان يقود الهوى الحق ، فتعوّذوا بالله من ذلك الزمان.

تنبيه : اختلف في سبب نزول هاتين الآيتين ، فقيل : نزلتا في مصعب بن عمير وأخيه. روى الضحاك عن ابن عباس قال : (فَأَمَّا مَنْ طَغى) فهو أخو مصعب بن عمير أسر يوم بدر وأخذته الأنصار فقالوا : من أنت ، قال : أنا أخو مصعب بن عمير فلم يشدّوه في الوثاق وأكرموه وبيتوه عندهم فلما أصبحوا حدّثوا مصعب بن عمير حديثه ، فقال : ما هو لي بأخ شدّوا أسيركم ، فإنّ أمّه أكثر أهل البطحاء حليا ومالا ، فأوثقوه حتى تبعث أمّه فداءه ، (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) فمصعب بن عمير وقى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنفسه يوم أحد حين تفرق الناس عنه حتى نفذت المشاقص في جوفه ، والمشاقص جمع مشقص وهو السهم العريض ، فلما رآه صلى‌الله‌عليه‌وسلم متشحطا في دمه قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عند الله أحتسبك» وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه : «لقد رأيته وعليه بردان ما تعرف قيمتهما وإنّ شراك نعله من ذهب» (١) وعن ابن عباس أيضا : نزلت في رجلين أبي جهل بن هشام ومصعب بن عمير (٢). وقال السدي : نزلت الآية الثانية في أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وقال الكلبي : هما عامّتان.

ولما سمع المشركون أخبار القيامة ووصفها بالأوصاف الهائلة مثل الطامّة الكبرى والصاخة والقارعة وسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم استهزاء متى تكون الساعة؟ نزل : (يَسْئَلُونَكَ) يا أشرف الخلق (عَنِ السَّاعَةِ) أي : البعث الآخر لكثرة ما تتوعدهم به من أمرها (أَيَّانَ مُرْساها) أي : في أي وقت إرساؤها ، أي : إقامتها أرادوا متى يقيمها الله تعالى ويثبتها ويكوّنها ، أو أيان منتهاها ومستقرّها ، كما أنّ مرسى السفينة مستقرّها حيث تنتهي إليه.

فأجابهم الله تعالى بقوله سبحانه : (فِيمَ) أي : في أي شيء (أَنْتَ مِنْ ذِكْراها) أي : من أن تذكر وقتها لهم وتعلمهم به.

تنبيه : (فِيمَ) خبر مقدّم و (أَنْتَ) مبتدأ مؤخر و (مِنْ ذِكْراها) متعلق بما تعلق به الخبر،

__________________

(١) أخرجه القرطبي في تفسيره ١٩ / ٢٠٨.

(٢) أخرجه الحاكم في المستدرك ٢ / ٥١٣ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ٧ / ١٣٣.

٥٤٥

والمعنى : أنت في أي شيء من ذكراها ، أي : ما أنت من ذكراها لهم وتبيين وقتها في شيء. وعن عائشة رضي الله عنها «لم يزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يذكر الساعة ويسأل عنها حتى نزلت» (١) فهو على هذا تعجب من كثرة ذكره لها ، كأنه قيل : في أيّ شغل واهتمام أنت من ذكراها والسؤال عنها ، والمعنى : أنهم يسألونك عنها فلحرصك على جوابهم لا تزال تذكرها وتسأل عنها.

(إِلى رَبِّكَ) أي : المحسن إليك بأنواع النعم (مُنْتَهاها) أي : منتهى علمها لم يؤت علمها أحدا من خلقه كقوله تعالى : (إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) [الأعراف : ١٨٧] وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) [لقمان : ٣٤] قال القرطبي : ويجوز أن يكون إنكارا على المشركين في مسألتهم ، أي : فيم أنت من ذلك حتى يسألونك ، بيانه : ولست ممن يعلمه. روي معناه عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وقيل : الوقف على قوله تعالى : (فِيمَ) وهو خبر مبتدأ مضمر أي : فيم هذا السؤال ، ثم يبتدأ بقوله تعالى : (أَنْتَ مِنْ ذِكْراها) أي : أرسلناك وأنت خاتم الأنبياء وآخر الرسل المبعوث في فم الساعة ذكر من ذكراها وعلامة من علاماتها فكفاهم بذلك دليلا على دنوّها ومشارفتها ووجوب الاستعداد لها ، ولا معنى لسؤالهم عنها.

(إِنَّما أَنْتَ) أي : يا أشرف الرسل (مُنْذِرُ) أي : إنما بعثت لإنذار (مَنْ يَخْشاها) أي : لتخويف من يخاف هولها ، وهو لا يناسب تعيين الوقت وتخصيص من يخشى ؛ لأنه المنتفع به ، أي : إنما ينفع إنذارك من يخافها وإن كنت منذرا لكلّ مكلف.

(كَأَنَّهُمْ) قال البغوي : يعني : كفار قريش (يَوْمَ يَرَوْنَها) أي : يعلمون قيام الساعة علما هو كالرؤية ويرون ما يحدث فيها بعد سماع الصيحة وقيامهم من القبور مع علمهم بما مرّ من زمانهم وما أتى فيه (لَمْ يَلْبَثُوا) أي : في الدنيا أو في القبور (إِلَّا عَشِيَّةً) أي : من الزوال إلى غروب الشمس (أَوْ ضُحاها) أو ضحى عشية من العشايا وهو البكرة إلى الزوال ، والعشية بعد ذلك أضيف إليها الضحى ؛ لأنها من النهار ، والإضافة تحصل بأدنى ملابسة ، وهي هنا كونهما من نهار واحد ، فالمراد ساعة من نهار من أوّله أو آخره لم يستكملوا نهارا تامّا ، ولم يجمعوا بين طرفيه ، وهذا كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع» (٢).

فإن قيل : هلا قال : إلا عشية أو ضحى ، وما فائدة الإضافة؟ أجيب : بأنّ ذلك للدلالة على أنّ مدة لبثهم كأنها لم تبلغ يوما كاملا ، ولكن ساعة منه عشيته أو ضحاه ، فلما ترك اليوم أضافه على عشيته فهو كقوله تعالى : (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ) [الأحقاف : ٣٥] وحسن الإضافة وقوع الكلمة فاصلة.

تنبيه : قرأ (حَدِيثُ مُوسى ، * طُوىً ، * طَغى ، تَزَكَّى ، * فَتَخْشى ، وَعَصى ، * يَسْعى ، * فَنادى ، * الْأَعْلى ، * وَالْأُولى ، * يَخْشى ، * ما سَعى ، طَغى ، الدُّنْيا ، الْمَأْوى ، * عَنِ الْهَوى ، الْمَأْوى ،) حمزة والكسائي بالإمالة محضة ، وورش

__________________

(١) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.

(٢) أخرجه مسلم في الجنة حديث ٢٨٥٨ ، والترمذي حديث ٢٣٢١ ، ٢٣٢٣ ، وابن ماجه في الزهد حديث ٤١٠٨ ، وأحمد في المسند ٤ / ٢٢٩.

٥٤٦

وأبو عمرو بين وبين ، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين. وقرأ (فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى ، الطَّامَّةُ الْكُبْرى لِمَنْ يَرى ، مِنْ ذِكْراها ،) أبو عمرو وحمزة والكسائي بالإمالة محضة ، وقرأ ورش بين اللفظين والباقون بالفتح في الجميع.

وقول البيضاوي تبعا للزمخشري إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ سورة والنازعات كان ممن حبسه الله تعالى في القبر والقيامة حتى يدخل الجنة قدر صلاة مكتوبة» (١) حديث موضوع.

__________________

(١) ذكره الزمخشري في الكشاف ٤ / ٧٠٠.

٥٤٧

سورة عبس

مكية ، وتسمى سورة السفرة وهي اثنان وأربعون آية ومائة وثلاثون كلمة وثلاثمائة وثلاثون حرفا.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) الواحد القهار (الرَّحْمنِ) الذي عمّ بإنعامه الأبرار والفجار (الرَّحِيمِ) الذي خص أولياءه برحمته في دار القرار.

(عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (٨) وَهُوَ يَخْشى (٩) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ (١٦) قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (٢٣) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (٢٤) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (٢٥) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (٢٧) وَعِنَباً وَقَضْباً (٢٨) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (٢٩) وَحَدائِقَ غُلْباً (٣٠) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (٣١) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٢))

(عَبَسَ) أي : كلح وجهه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَتَوَلَّى) أي : أعرض بوجهه لأجل (أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى) وهو ابن أمّ مكتوم وأم مكتوم أمّ أبيه واسمها عاتكة بنت عامر بن مخزوم ، واسمه عبد الله بن شريح بن مالك بن ربيعة الفهري من بني عامر بن لؤيّ ، وذلك أنه جاءه وعنده صناديد قريش عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل بن هشام ، والعباس بن عبد المطلب ، وأمية بن خلف ، والوليد بن المغيرة يدعوهم إلى الإسلام رجاء أن يسلم أولئك الأشراف الذين كان يخاطبهم فيتأيد بهم الإسلام ويسلم بإسلامهم أتباعهم ، فتعلو كلمة الله تعالى ، فقال : يا رسول الله ، أقرئني وعلمني مما علمك الله تعالى وكرّر ذلك وهو لا يعلم تشاغله بالقوم ، فكره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قطعه لكلامه وعبس وأعرض عنه ، وقال في نفسه : يقول هؤلاء الصناديد : إنما اتبعه العميان والعبيد والسفلة فعبس وجهه وأعرض عنه وأقبل على القوم الذين يكلمهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآيات فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ذلك يكرمه ، وإذا رآه قال : «مرحبا بمن عاتبني فيه ربي» ، ويبسط له رداءه ويقول له : «هل لك حاجة؟» (١)

__________________

(١) أخرجه القرطبي في تفسيره ١٩ / ٢١٣ ، وابن كثير في تفسيره ٤ / ٥٥٦ ، والبغوي في تفسيره ٥ / ٢٠٩ ـ ٢١٠.

٥٤٨

واستخلفه على المدينة مرّتين في غزوتين غزاهما. قال أنس بن مالك : رأيته يوم القادسية راكبا وعليه درع وله راية سوداء.

(وَما يُدْرِيكَ) أي : أيّ شيء يجعلك داريا بحاله (لَعَلَّهُ) أي : الأعمى (يَزَّكَّى) فيه إدغام التاء في الأصل في الزاي ، أي : يتطهر من الذنوب بما يسمع منك وفي ذلك إيماء بأنّ إعراضه كان لتزكية غيره.

(أَوْ يَذَّكَّرُ) فيه إدغام التاء في الذال أي : يتعظ وتسبب عن تزكيته وتذكره قوله تعالى : (فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى) أي : العظة المسموعة منك ، وقرأ عاصم بنصب العين والباقون برفعها ، فمن رفع فهو نسق على قوله تعالى : (أَوْ يَذَّكَّرُ) ومن نصب فعلى جواب الترجي كقوله تعالى في غافر : (فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى) [غافر : ٣٧]. وقال ابن عطية في جواب التمني لأن قوله تعالى : (أَوْ يَذَّكَّرُ) في حكم قوله تعالى : (لَعَلَّهُ يَزَّكَّى)

واعترض عليه أبو حيان : بأنّ هذا ليس تمنيا وإنما هو ترج. وأجيب عنه : بأنه إنما يريد التمني المفهوم وقت الذكرى.

وقرأ (الذِّكْرى) أبو عمرو وحمزة والكسائي بالإمالة محضة ، وورش بين اللفظين ، والباقون بالفتح وقيل : الضمير في لعله للكافر يعني : أنك طمعت في أن يتزكى بالإسلام أو يذكر فتقرّبه الذكرى إلى قبول الحق وما يدريك أنّ ما طمعت فيه كائن.

(أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى) أي : بالمال ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : استغنى عن الله وعن الإيمان بما له من المال. (فَأَنْتَ لَهُ) أي : دون الأعمى (تَصَدَّى) أي : تتعرّض له بالإقبال عليه والمصادّة المعارضة وقرأ نافع وابن كثير بتشديد الصاد بإدغام التاء الثانية في الأصل فيها والباقون بالتخفيف.

(وَما) أي : فعلت ذلك والحال أنه ما (عَلَيْكَ) أي : وليس عليك بأس (أَلَّا يَزَّكَّى) أي : في أن لا يتزكى بالإسلام حتى يبعثك الحرص على إسلامه إلى الإعراض عمن أسلم إن عليك إلا البلاغ.

(وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ) حال كونه (يَسْعى) أي : يسرع في طلب الخير وهو ابن أمّ مكتوم (وَهُوَ) أي : والحال أنه (يَخْشى) أي : الله أو الكفار في أذاهم على الإتيان إليك. وقيل : جاء وليس معه قائد فهو يخشى الكبوة ، وقرأ قالون وأبو عمرو والسدّي بسكون الهاء والباقون بضمها.

(فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) فيه حذف التاء الآخرة في الأصل ، أي : تتشاغل ، وقرأ (وَتَوَلَّى ، الْأَعْمى ، يُزَكِّي ، * مَنِ اسْتَغْنى ، تَصَدَّى ، يُزَكِّي ، * يَسْعى ، يَخْشى ، تَلَهَّى) حمزة والكسائي بالإمالة محضة ، وورش وأبو عمرو بين بين ، والفتح عن ورش قليل والباقون بالفتح.

وقوله تعالى : (كَلَّا) ردع عن العاتب عليه وعن معاودة مثله. فإن قيل : ما فعله ابن أمّ مكتوم كان يستحق عليه التأديب والزجر ، فكيف عاتب الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على تأديبه ، لأنه وإن كان أعمى فقد سمع مخاطبته صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأولئك الكفار ، وكان بسماعه يعرف شدّة اهتمام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشأنهم ، فكان إقدامه على قطع كلامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لغرض نفسه قبل تمام كلام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم معصية عظيمة ، وأيضا فإنّ الأهمّ يقدّم على المهمّ ، وكان قد أسلم وتعلم ما يحتاج من أمر الدين ، وأما أولئك الكفار فلم

٥٤٩

يكونوا أسلموا ، وكان إسلامهم سببا لإسلام غيرهم ، فكان كلام ابن أمّ مكتوم كالسبب في قطع ذلك الخير العظيم لغرض قليل ، وذلك يحرم أيضا. فإنّ الله تعالى ذمّ الذين ينادونه من وراء الحجرات بمجرّد ندائهم ، فهذا النداء الذي هو كالصارف للكفار عن الإيمان أولى أن يكون ذنبا ، وأيضا فمع هذا الاعتناء كيف لقب بالأعمى ، وأيضا فالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم له أن يؤدّب أصحابه بما يراه مصلحة ، والتعبيس من ذلك القبيل؟

أجيب : بأنّ ما فعله ابن أمّ مكتوم كان من سوء الأدب لو كان عالما بأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مشغول بغيره وأنه يرجو إسلامهم ، ولكنه لم يعلم بذلك. وأيضا الله سبحانه وتعالى إنما عاتبه على ذلك حتى لا تنكسر قلوب الضعفاء ، أو ليعلم أنّ المؤمن الفقير خير من الغنيّ الكافر.

وقال ابن زيد : إنما عبس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لابن أمّ مكتوم وأعرض عنه لأنه أشار إلى الذي كان يقوده أن يكفه فدفعه ابن أمّ مكتوم وأبى إلا أن يتكلم مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكان في هذا نوع جفاء منه ، ومع هذا نزل في حقه ذلك ، وأما ذكره بلفظ الأعمى فليس للتحقير بل كان بسبب عماه يستحق أن يزيده تعطفا وترؤفا وتقريبا وترحيبا ، ولقد تأدب الناس بأدب الله تعالى في هذا تأدبا حسنا ، فقد روي عن سفيان الثوري رضي الله عنه : أنّ الفقراء كانوا بمجلسه أمراء ، وأما كونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مأذونا له في تأديب أصحابه فلأنّ تقديمهم ربما يوهم ترجيح تقديم الأغنياء على الفقراء فلهذا السبب عوتب.

قال الحسن رضي الله عنه : لما تلا جبريل عليه‌السلام على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآيات عاد وجهه كأنما نسف فيه الرماد ينتظر ما يحكم الله تعالى عليه فلما قال : (كَلَّا) سرّي عنه أي : لا تفعل مثل ذلك ، وقد بينا نحن أنّ ذلك محمول على ترك الأولى. ثم قال الله تعالى : (إِنَّها) أي : هذه السورة. وقال مقاتل رضي الله عنه : آيات القرآن. وقيل : القرآن ، وأنثه لتأنيث خبره وهو قوله تعالى : (تَذْكِرَةٌ) أي : عظة للخلق يجب الاتعاظ بها والعمل بموجبها.

(فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) أي : كان حافظا له غير ناس ، وذكر الضمير لأنّ التذكرة في معنى الذكر والوعظ.

ثم إنّ الله تعالى أخبر عن جلالة ذلك عنده فقال سبحانه (فِي صُحُفٍ) أي : منتسخة من اللوح المحفوظ ، وقيل : هي كتب الأنبياء عليهم‌السلام ، دليله قوله تعالى : (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٨) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) [الأعلى ، الآيتان : ١٨ ـ ١٩]. (مُكَرَّمَةٍ) أي : عند الله تعالى.

(مَرْفُوعَةٍ) أي : في السماء السابعة أو مرفوعة المقدار (مُطَهَّرَةٍ) أي : منزهة عن أيدي الشياطين لا يمسها إلا أيدي ملائكة كرام مطهرين.

كما قال تعالى : (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ) أي : كتبة ينسخونها من اللوح المحفوظ وهم الملائكة الكرام الكاتبون واحدهم سافر يقال : سفرت ، أي : كتبت ، ومنه قيل للكتاب : سفر وجمعه أسفار. وقيل : هم الرسل من الملائكة واحدهم سفير وهو الرسول ، وسفير القوم هو الذي يسعى بينهم بالصلح ، وسفرت بين القوم إذا أصلحت بينهم.

ثم أثنى تعالى عليهم بقوله سبحانه : (كِرامٍ) أي : على الله تعالى وروى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما في كرام قال : مكرّمون أن يكونوا مع ابن آدم إلا إذا خلا بزوجته أو برز لغائط وقيل : يؤثرون منافع غيرهم على منافع أنفسهم. وقوله : (بَرَرَةٍ) جمع بارّ كساحر وسحرة وفاجر وفجرة ، والبارّ هو الصادق المطيع. ومنه برّ فلان في يمينه أي : صدق ، وفلان يبر خالقه

٥٥٠

أي : يطيعه. فمعنى بررة مطيعين صادقين لله تعالى في أعمالهم.

ولما ذكر تعالى ترفع صناديد قريش على فقراء المسلمين عجب عباده المؤمنين من ذلك فقال سبحانه : (قُتِلَ الْإِنْسانُ) أي : لعن الكافر ، وقوله تعالى : (ما أَكْفَرَهُ) استفهام توبيخ ، أي : ما أشدّ تغطيته للحق وجحده له وعناده فيه لإنكاره البعث وإشراكه بربه وغير ذلك مما حمله على الكفر.

وقوله تعالى : (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) استفهام تقرير.

ثم بينه بقوله تعالى : (مِنْ نُطْفَةٍ) أي : ماء يسير جدّا لا من غيره. (خَلَقَهُ) أي : أوجده مقدّرا على ما هو عليه من التخطيط (فَقَدَّرَهُ) أي : علقة ثم مضغة إلى آخر خلقه فكأنه قيل : وأي سبب في هذا الترفع مع أنّ أوّله نطفة مذرة وآخره جيفة قذرة ، وهو فيما بين الوقتين حامل عذرة ، فإنّ خلقة الإنسان تصلح أن يستدل بها على وجود الصانع ؛ لأنه يستدل بها على أحوال البعث والحشر. قيل : نزلت في عتبة بن أبي لهب والظاهر العموم.

فإن قيل : الدعاء على الإنسان إنما يليق بالعاجز فالقادر على الكل كيف يليق به ذلك ، والتعجب أيضا إنما يليق بالجاهل بسبب الشيء ، فالعالم به كيف يليق به ذلك؟ أجيب : بأنّ ذلك ورد على أسلوب كلام العرب لبيان استحقاقهم لأعظم العقاب حيث أتوا بأعظم القبائح. كقولهم إذا تعجبوا من شيء : قاتله الله ما أحسنه ، وأخزاه الله ما أظلمه ، والمعنى : اعجبوا من كفر الإنسان بجميع ما ذكرنا بعد هذا.

وقيل : الاستفهام استفهام تحقير له فذكر أوّل مراتبه وهو قوله تعالى : (مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ) ولا شك أنّ النطفة شيء حقير مهين ، ومن كان أصله ذلك كيف يتكبر وقوله تعالى : (فَقَدَّرَهُ) أي : أطوارا وقيل : سوّاه كقوله تعالى : (ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً) [الكهف : ٣٧] أو قدّر كل عضو في الكيفية والكمية بالقدر اللائق لمصلحته كقوله تعالى : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) [الفرقان : ٢].

ثم ذكر المرتبة الوسطى بقوله تعالى : (ثُمَ) بعد انتهاء المدّة (السَّبِيلَ) أي : طريق خروجه من بطن أمّه (يَسَّرَهُ) أي : سهل له أمره في خروجه بأن فتح له الرحم وألهمه الخروج منه ، ولا شك أنّ خروجه من أضيق المسالك من أعجب العجائب يقال : إنه كان رأسه في بطن أمّه من فوق ورجلاه من تحت ، فإذا جاء وقت الخروج انقلب فمن الذي أعطاه ذلك الإلهام المراد ، ومنه قوله تعالى : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) [البلد : ١٠] أي : التمييز بين الخير والشرّ.

وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : سبيل الشقاء والسعادة. وقال ابن زيد : سبيل الإسلام. قال أبو بكر بن طاهر : يسر على كل أحد ما خلقه له وقدر عليه لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل ميسر لما خلق له» (١). ثم ذكر المرتبة الأخيرة بقوله تعالى : (ثُمَّ أَماتَهُ) وأشار إلى إيجاب المبادرة بالتجهيز بالفاء المعقبة في قوله تعالى : (فَأَقْبَرَهُ) أي : جعله في قبر يستره إكراما له ، ولم يجعله ممن يلقى على وجه الأرض تأكله الطير وغيرها.

__________________

(١) أخرجه البخاري في التوحيد حديث ٧٥٥١ ، ومسلم في القدر حديث ٢٦٤٩ ، وأبو داود في السنة حديث ٤٧٠٩.

٥٥١

(ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ) أي : أحياه بعد موته للبعث ، ومفعول شاء محذوف أي : شاء إنشاره وأنشره جواب إذا ، وقرأ قالون وأبو عمرو والبزي بإسقاط الهمزة الأولى مع المدّ والقصر ، وسهل الثانية ورش وقنبل ولهما أيضا إبدالها ألفا والباقون بتحقيقهما.

وقوله تعالى : (كَلَّا) ردع للإنسان عما هو عليه ، وقيل : معناها حقا. قال الأوّل الزمخشري وتبعه البيضاوي ، وقال الثاني الجلال المحلي. (لَمَّا يَقْضِ) أي : يفعل (ما أَمَرَهُ) به ربه من الإيمان وترك التكبر. وقيل : لم يوف بالميثاق الذي أخذ عليه في صلب آدم عليه‌السلام. وقيل : المعنى : إن ذلك الإنسان الكافر لم يقض ما أمره به من التأمّل في دلائل الله تعالى والتدبر في عجائب خلقه.

ولما كانت عادة الله تعالى جارية في القرآن أنه كلما ذكر دلائل الإنسان ذكر عقبها دلائل الآفاق بدأ من ذلك بما يحتاج إليه الإنسان بقوله تعالى : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ) أي : يوقع النظر التامّ بكل شيء يقدر على النظر به من بصره وبصيرته (إِلى طَعامِهِ) أي : الذي هو قوام حياته كيف هيأ له أسباب المعاش ليستعدّ بها للمعاد. قال الحسن ومجاهد : فلينظر إلى طعامه إلى مدخله ومخرجه. وروي عن الضحاك أنه قال : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا ضحاك ، ما طعامك؟» قلت : يا رسول الله ، اللحم واللبن ، قال : «فشرابك ماذا؟» قلت : الماء قد علمته ، قال : «فإن الله تعالى ضرب ما يخرج من ابن آدم مثلا للدنيا» (١).

وروي عن ابن عمر أنّ الرجل يدخل الخلاء فينظر ما يخرج منه فيأتيه الملك فيقول انظر إلى ما تحليت به إلام صار؟

وقرأ (أَنَّا صَبَبْنَا) أي : بما لنا من العظمة (الْماءَ) عاصم وحمزة والكسائي بفتح الهمزة على أنه بدل اشتمال بمعنى أنّ صب الماء سبب في إخراج الطعام فهو مشتمل عليه بهذا التقدير ، أو أنه على تقدير لام العلة ، أي : فلينظر لأنا ثم حذف الخافض ، وقال البغوي : أنا بالفتح على تكرير الخافض مجازه فلينظر إلى أنا وقرأ الباقون بالكسر على الاستئناف تعديدا لنعمه تعالى عليه ، وقوله تعالى (صَبًّا) تأكيد ، والمراد بالماء المطر.

ولما كان الإنسان محتاجا إلى جميع ما في الوجود ولو نقص منه شيء اختل أمره وبدأ أولا بالسماوي لأنه أشرف وبالماء الذي هو حياة كل شيء تنبيها له على ابتداء خلقه. ثنى بالأرض التي هي كالأنثى بالنسبة إلى السماء فقال تعالى (ثُمَ) أي : بعد مهلة من إنزال الماء (شَقَقْنَا) أي : بما لنا من العظمة (الْأَرْضَ) أي : بالنبات الذي هو في غاية الضعف عن شق أضعف الأشياء فكيف بالأرض اليابسة ، وقوله تعالى (شَقًّا) تأكيد.

ثم سبب عن الشق ما هو كالتفسير له فقال تعالى : (فَأَنْبَتْنا) أي : بما لنا من القدرة التامة (فِيها) أي : بسبب الشق (حَبًّا) أي : قمحا وشعيرا وسلتا وسائر ما يحصد ويدخر ، وقدّم ذلك لأنه كالأصل في التغذية (وَعِنَباً) وذكره بعد الحب لأنه غذاء من وجه وفاكهة من وجه (وَقَضْباً) قال ابن عباس رضي الله عنهما : هو الرطب لأنه يقتضب من النخل ، أي : يقطع ورجحه بعضهم

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ٣ / ٤٥٢ ، والطبراني في المعجم الكبير ٨ / ٣٥٩ ، والمنذري في الترغيب والترهيب ٤ / ١٧٤ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ١٠ / ٢٨٨ ، والقرطبي في تفسيره ١٩ / ٢٢٠.

٥٥٢

لذكره بعد العنب لأنهما يقترنان كثيرا ، وقيل : القت الرطب ، وقيل : كل ما يقضب من البقول لبني آدم ، وقيل : هو الرطبة والمقضاب أرضه ، سمي بمصدر قضبه إذا قطعه لأنه يقضب مرة بعد أخرى. وقال الحسن : القضب العلف للدواب.

(وَزَيْتُوناً) وهو ما يعصر منه الزيت يكون فيه حرافة وغضاضة فيه إصلاح المزاج. وقوله تعالى : (وَنَخْلاً) جمع نخلة ، وكل من هذه الأشجار مخالف للآخر في الشكل والحمل وغير ذلك مع المرافقة في الأرض والسقي.

وقوله تعالى (وَحَدائِقَ غُلْباً) جمع أغلب وغلباء كحمر في أحمر وحمراء ، أي : بساتين كثيرة الأشجار. والأصل في الوصف بالغلب الرقاب ، يقال : رجل أغلب وامرأة غلباء غليظا الرقبة فاستعير. قال عمرو بن معد يكرب (١) :

يمشي بها غلب الرجال كأنهم

بزل كسين من الكحيل جلالا

وقال مجاهد ومقاتل : الغلب الملتفة الشجر بعضه في بعض. وقال ابن عباس رضي الله عنهما : الطوال. وقيل : غلاظ الأشجار.

(وَفاكِهَةً) وهي ما تأكله الناس من ثمار الأشجار كالتين والخوخ ، قال النووي في منهاجه : ويدخل في فاكهة رطب وعنب ورمّان وأترج ورطب ويابس أي : كالتمر والزبيب ، قال : قلت : وليمون ونبق وبطيخ ولب فستق وبندق وغيرها في الأصح. (وَأَبًّا) وهو ما تأكله الدواب لأنه يؤب أي : يؤمّ وينتجع إليه. وقال عكرمة : الفاكهة ما يأكله الناس ، والأب ما تأكله الدواب ، وقيل : التبن. وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه سئل عن الأب فقال : أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله تعالى ما لا علم لي به. وعن عمر رضي الله عنه أنه قرأ هذه الآية فقال : كل هذا عرفنا فما الأب؟ ثم رفض عصا كانت بيده ، ثم قال : هذا لعمر الله التكلف وما عليك يا ابن أمّ عمر أن لا تدري ما الأبّ ، ثم قال : اتبعوا ما تبين لكم من هذا الكتاب وما لا فدعوه.

فإن قيل : هذا يشبه النهي عن تتبع معاني القرآن والبحث عن مشكلاته؟ أجيب : بأنه لم يذهب إلى ذلك ولكن القوم كانت أكثر همتهم عاكفة على العمل ، وكان التشاغل بشيء من العلم الذي لا يعمل به تكلفا عندهم ، فأراد أنّ الآية مسوقة عندهم في الامتنان على الإنسان بمطعمه واستدعاء شكره ، وقد علم من فحوى الآية أنّ الأب بعض ما أنبته الله تعالى للإنسان متاعا له أو لأنعامه ، فعليك بما هو أهمّ من النهوض بالشكر لله تعالى على ما بين لك ، ولم يشكل مما عدّد من نعمه ، ولا تتشاغل عنه بطلب معنى الأب ومعرفة النبات الخاص الذي هو اسم له ، واكتف بالمعرفة الجملية إلى أن يتبين لك من مشكلات القرآن.

(مَتاعاً) أي : العشب ، أي : منفعة أو تمتيعا كما تقدّم في السورة قبلها (لَكُمْ) أي : الفاكهة (وَلِأَنْعامِكُمْ) وتقدّم أيضا في السورة التي قبلها معرفة الأنعام والحكمة في الاقتصار عليها.

ولما ذكر تعالى هذه الأشياء وكان المقصود منها ثلاثة : أوّلها : الدلائل الدالة على التوحيد ، وثانيها : الدلائل الدالة على القدرة والمعاد. وثالثها : أنّ هذا الإله الذي أحسن إلى عبيده بهذه

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو في ديوان عمرو بن معد يكرب ص ١٤٦.

٥٥٣

الأنواع العظيمة من الإحسان لا يليق بالعاقل أن يتمرّد على طاعته وأن يتكبر على عبيده أتبع ذلك بما يكون كالمؤكد لهذه الأغراض وهو شرح أحوال القيامة ، فإن الإنسان إذا سمعها خاف فيدعوه ذلك الخوف إلى التأمّل في الدلائل والإيمان بها والإعراض عن الكفر ، ويدعوه أيضا إلى ترك التكبر على الناس وإلى إظهار التواضع فقال تعالى :

(فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (٤١) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (٤٢))

(فَإِذا جاءَتِ) أي : كانت ووجدت لأنّ كل ما هو كائن لاقيك وجاء إليك (الصَّاخَّةُ) أي : صيحة القيامة وهي النفخة الثانية التي تصخ الأذن ، أي : تصمها لشدّة وقعتها. مأخوذة من صخه بالحجر أي : صكه به. وقال الزمخشري : صخ لحديثه مثل أصاخ فوصفت النفخة بالصاخة مجازا ، لأنّ الناس يصخون لها. وقال ابن العربي : الصاخة التي تورث الصمم وإنها لمسمعة ، وهذا من بديع الفصاحة كقوله (١) :

أصمني سرّهم أيام فرقتهم

وهل سمعتم بسرّ يورث الصمما

وجواب (إذا) محذوف دل عليه قوله تعالى : (فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ) أي : اشتغل كل واحد بنفسه.

وقوله تعالى : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ) بدل من إذا (مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ) أي : زوجته (وَبَنِيهِ) لاشتغاله بما هو مدفوع إليه ، ولعلمه أنهم لا يغنون عنه شيئا كقوله تعالى : (يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً) [الدخان : ٤١] فيفرّ المرء من هؤلاء الذين كان يفرّ إليهم في دار الدنيا ويستجير بهم لكثرة ما يشغله. وبدأ بالأخ لأنه أدناهم رتبة في الحب والذب ، ثم بالأمّ لأنها كانت مشاركة له في الإلف ويلزم من حمايتها أكثر مما يلزم للأخ ، وهو لها آلف وعليها أحنّ وعليها أرق وأعطف ، ثم بالأب لأنه أعظم منها في الإلف لأنه أقرب منها في النوع ، وللولد عليه من المعاطفة ما له من مزيد النفع أكثر ممن قبله ، ثم بالصاحبة لأنّ الزوجة التي هي أهل لأن تصحب ألصق بالفؤاد وأعرق في الوداد ، وكان الإنسان أذب عنها عند الشدائد ، ثم بالولد لأنّ له من المحبة والمعاطفة بالسرور والمشاورة في الأمر ما ليس لغيره ، ولذلك يضيع عليه رزقه وعمره.

فقدّم أدناهم مرتبة في الحب والذب ، فأدناهم على سبيل الترقي وأخر الأوجب في ذلك فالأوجب بخلاف ما في سورة سأل فكأنه قيل : يفرّ المرء من أخيه بل من أمّه بل من أبيه بل من صاحبته بل من بنيه ، وقيل : يفرّ منهم حذرا من مطالبتهم بالتبعات. يقول الأخ : لم تواسني بمالك ، والأبوان : قصرت في برّنا ، والصاحبة : أطعمتني الحرام وفعلت وصنعت ، والبنون : لم تعلمنا ولم ترشدنا ، وقيل : أوّل من يفرّ من أخيه هابيل ، ومن أبويه إبراهيم عليه‌السلام ، ومن صاحبته نوح ولوط ، ومن ابنه نوح.

ولما ذكر الفرار أتبعه سببه فقال تعالى : (لِكُلِّ امْرِئٍ) وإن كان أعظم الناس مروءة (مِنْهُمْ

__________________

(١) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

٥٥٤

يَوْمَئِذٍ) أي : إذ تكون هذه الدواهي العظام والشدائد والآلام. (شَأْنٌ) أي : أمر عظيم. وقوله تعالى : (يُغْنِيهِ) حال ، أي : يشغله عن شأن غيره. وعن سودة رضي الله تعالى عنها زوج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يبعث الناس حفاة عراة غرلا ـ أي : بالقلفة ـ قد ألجمهم العرق وبلغ شحوم الآذان» فقلت : يا رسول الله واسوأتاه ينظر بعضنا إلى بعض؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قد شغل الناس لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» (١). وقال قتيبة : يغنيه أي : يصرفه عن قرابته ، ومنه يقال : أغن عني وجهك أي : اصرفه. وقال أهل المعاني : يغنيه أي : ذلك الهمّ الذي حصل له قد ملأ صدره ، فلم يبق فيه متسع لهم آخر ، فصار شبيها بالغنى في أنه ملك شيئا كثيرا.

ولما ذكر تعالى حال القيامة في الهول بين أنّ المكلفين على قسمين : سعداء وأشقياء فوصف سبحانه السعيد بقوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ) أي : إذ كان ما تقدّم من الفرار وغيره (مُسْفِرَةٌ) أي : مضيئة متهللة من أسفر الصبح إذا أضاء. وعن ابن عباس : من قيام الليل لما روي في الحديث «من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار» (٢). وعن الضحاك من آثار الوضوء. وقيل : من طول ما اغبرّت في سبيل الله تعالى.

(ضاحِكَةٌ) أي : مسرورة فرحة. قال الكلبيّ : يعني بالفراغ من الحساب (مُسْتَبْشِرَةٌ) أي : بما آتاها الله تعالى من الكرامة.

ثم وصف الشقيّ بقوله تعالى : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ) أي : إذ وجد ما ذكر. (عَلَيْها غَبَرَةٌ) أي : غبار. (تَرْهَقُها) أي : تعلوها (قَتَرَةٌ) أي : سواد كالدخان ولا يرى أوحش من اجتماع الغبرة والسواد في الوجه كما يرى في وجوه الزنوج إذا اغبرّت.

(أُولئِكَ) أي : البعداء البغضاء الذين يصنع بهم هذا (هُمُ) أي : خاصة (الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) جمع الكافر والفاجر وهو الكاذب والمفتري على الله تعالى فجمع تعالى إلى سواد وجوههم الغبرة كما جمعوا الفجور إلى الكفر.

وقول البيضاوي تبعا للزمخشري إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ سورة عبس وتولى جاء يوم القيامة ووجهه ضاحك مستبشر» (٣) حديث موضوع ، وكان من حق البيضاوي أن لا يعبر بقال بل بعن كالزمخشري أو نحوها ، ويأتي مثله في نظائره.

__________________

(١) أخرجه البخاري في الرقاق حديث ٦٥٢٧ ، ومسلم في الجنة حديث ٢٨٥٩ ، والترمذي في تفسير القرآن حديث ٣٣٣٢ ، والنسائي في الجنائز حديث ٢٠٨٣.

(٢) أخرجه ابن ماجه حديث ١٣٣٢ ، ١٣٣٣ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٥ / ٢٠٤ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٢١٣٩٤ ، وابن كثير في تفسيره ٧ / ٣٤٢ ، والقرطبي في تفسيره ١٦ / ٢٩٣ ، ١٩ / ٢٢٦.

(٣) ذكره الزمخشري في الكشاف ٤ / ٧٠٦.

٥٥٥

سورة التكوير

مكية ، وهي تسع وعشرون آية ومائة وأربع كلمات وأربعمائة وأربعة وثلاثون حرفا.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) الذي أحاط علمه بالكائنات (الرَّحْمنِ) الذي عمّ وجوده سائر البريات (الرَّحِيمِ) الذي خص حزبه بنعيم الجنات.

(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (٤) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (٥) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (٦) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (١١) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (١٣) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (١٤) فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (١٦) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (١٧) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (١٨) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١))

واختلف في معنى قوله تعالى : (إِذَا الشَّمْسُ) أي : التي هي أعظم آيات السماء الظاهرة وأوضحها للحس (كُوِّرَتْ) فقال ابن عباس : أظلمت. وقال قتادة : ذهب ضوءها. وقال سعيد بن جبير : غوّرت. وقال مجاهد : اضمحلت. وقال الزجاج : لفت كما تلف العمامة ، يقال : كورت العمامة على رأسي أكوّرها كورا ، وكورتها تكويرا إذا لففتها ، وأصل التكوير جمع بعض الشيء إلى بعض ، فمعناه أنّ الشمس يجمع بعضها إلى بعض ، ثم تلف ، فإذا فعل بها ذلك ذهب ضوءها. قال ابن عباس : يكوّر الله تعالى الشمس والقمر والنجوم يوم القيامة في البحر ، ثم يبعث عليها ريحا دبورا فتضرمها فتصير نارا. وعن أبي هريرة أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الشمس والقمر يكوّران يوم القيامة» (١).

تنبيه : ارتفاع الشمس على الفاعلية ورافعها فعل مضمر يفسره كوّرت ؛ لأن إذا تطلب الفعل لما فيها من معنى الشرط.

(وَإِذَا النُّجُومُ) أي : كلها كبارها وصغارها (انْكَدَرَتْ) أي : انقضّت وتساقطت على الأرض.

قال تعالى : (وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) والأصل في الانكدار الانصباب.

__________________

(١) أخرجه البخاري في بدء الخلق حديث ٣٢٠٠ ، والتبريزي في مشكاة المصابيح ٥٥٢٦ ، والسيوطي في الدر المنثور ٦ / ٣١٨.

٥٥٦

قال العجاج في مدحه لعمرو بن معديكرب (١) :

إذا الكرام ابتدروا الباع ابتدر

تقضي البازي إذا البازي كسر

أبصر خربان فضاء فانكدر

أي : فانقض وسقط ، والخربان جمع خرب وهو ذكر الحبارى ، والباع يستعمل في الكرم ، يقال : فلان كريم الباع ؛ والمعنى : أنّ الكرام إذا ابتدروا فعل المكرمات بدرهم عمرو ، أي : أسرع كانقضاض البازي.

وروي عن ابن عباس أنّ النجوم قناديل معلقة بين السماء والأرض بسلاسل من نور بأيدي الملائكة عليهم‌السلام ، فإذا مات من في السموات ومن في الأرض تساقطت تلك الكواكب من أيدي الملائكة ، لأنه مات من كان يمسكها.

(وَإِذَا الْجِبالُ) التي هي في العالم السفلي كالنجوم في العالم العلوي ، وهي أصلب ما في الأرض. (سُيِّرَتْ) أي : ذهب بها عن وجه الأرض فصارت هباء منبثا ، وصارت الأرض قاعا صفصفا.

(وَإِذَا الْعِشارُ) أي : النوق الحوامل جمع عشراء كالنفاس جمع نفساء ، وهي التي أتى على حملها عشرة أشهر ، ثم هو اسمها إلى أن تضع لتمام السنة ، وهي أنفس ما يكون عند أهلها. روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم «مرّ في أصحابه بعشار من النوق فغض بصره ، فقيل له : هذه أنفس أموالنا فلم لا تنظر إليها؟ فقال : قد نهاني الله عن ذلك ثم تلا : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) [الحجر : ٨٨] الآية» (٢).

(عُطِّلَتْ) أي : تركت مسيبة مهملة بلا راع ، أو عطلها أهلها عن الحلب والصر لاشتغالهم بأنفسهم ، أو السحاب عطلت عن المطر والعرب تشبه السحاب بالحامل ، والأوّل على وجه المثل لأنّ في القيامة لا تكون ناقة عشراء ، والمعنى : أنّ يوم القيامة بحالة لو كان للرجل ناقة عشراء لعطلها واشتغل بنفسه.

(وَإِذَا الْوُحُوشُ) أي : دواب الأرض التي لا تأنس بأحد التي تظن أنها لا عبرة بها ولا التفات إليها فما ظنك بغيرها (حُشِرَتْ) أي : جمعت بعد البعث ليقتص لبعضها من بعض ثم تصير ترابا. قال قتادة : يحشر كل شيء حتى الذباب للقصاص. وقيل : إذا قضي بينها ردّت ترابا فلا يبقى منه إلا ما فيه سرور لبني آدم وإعجاب بصورته كالطاووس ونحوه. وعن ابن عباس حشرها موتها ، يقال إذا أجحفت السنة بالناس وأموالهم : حشرتهم السنة.

وقرأ (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) أي : على كثرتها ابن كثير وأبو عمرو بتخفيف الجيم والباقون بتشديدها. قال ابن عباس : أوقدت فصارت نارا تضطرم. وقال مجاهد : فجر بعضها في بعض العذب والملح ، فصارت البحار كلها بحرا واحدا. وقال القشيري : يرفع الله تعالى الحاجز الذي ذكره ، فإذا رفع ذلك البرزخ تفجرت مياه البحار فعمت الأرض كلها وصارت بحرا واحدا. وروى

__________________

(١) الرجز للعجاج في ديوانه ١ / ٤٢ ، ٤٣ ، ولسان العرب (ضبر) ، (ظفر) ، (عمر) ، وأدب الكاتب ص ٤٨٧ ، والأشباه والنظائر ١ / ٤٨ ، وديوان الأدب ٢ / ١٥٦ ، والإيضاح ٢ / ١٥٨.

(٢) أخرجه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٩ / ٣٣٠ ، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار ٤ / ٢١٦ ، وابن كثير في تفسيره ٤ / ٤٧٦.

٥٥٧

أبو العالية عن أبيّ بن كعب قال : ست آيات قبل يوم القيامة بينما الناس في أسواقهم ؛ إذ ذهب ضوء الشمس ، فبينما هم كذلك إذ تناثرت النجوم ، فبينما هم كذلك إذ وقعت الجبال على الأرض فتحرّكت واضطربت وفزعت الجنّ إلى الإنس والإنس إلى الجنّ ، واختلطت الدواب والطير والوحش ، وماج بعضهم في بعض فذلك قوله تعالى : (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) أي : اختلطت (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) قال الجنّ للإنس : نحن نأتيكم بالخبر ، فانطلقوا إلى البحر ، فإذا هو نار تتأجج. قال : فبينما هم كذلك إذ تصدّعت الأرض صدعة واحدة إلى الأرض السابعة السفلى ، وإلى السماء السابعة العليا ، فبينما هم كذلك إذ جاءتهم الريح فأماتتهم. وعن ابن عباس قال : هي اثنتا عشرة خصلة ستة في الدنيا وستة في الآخرة ، وهي ما ذكر من بعد.

(وَإِذَا النُّفُوسُ) أي : من كل ذي نفس من الناس وغيرهم (زُوِّجَتْ) أي : قرنت بأجسادها ، وروي أنّ عمر سئل عن هذه الآية ، فقال : يقرن بين الرجل الصالح مع الرجل الصالح في الجنة ، ويقرن بين الرجل السوء مع الرجل السوء في النار. وقال الحسن وقتادة : ألحق كل امرىء بشيعته ، اليهود باليهود والنصارى بالنصارى. وقال عطاء : زوّجت نفوس المؤمنين بالحور العين ، وقرنت نفوس الشياطين بالكافرين.

(وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ) أي : الجارية المدفونة حية. كان الرجل في الجاهلية إذ ولد له بنت ، فأراد أن يستحييها ألبسها جبة من صوف أو شعر ترعى له الإبل والغنم في البادية ، وإن أراد قتلها تركها حتى إذا كانت سداسية فيقول لأمّها : طيبيها وزينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها ، وقد حفر لها بئرا في الصحراء فيذهب بها إلى البئر ، فيقول لها : انظري فيها ثم يدفعها من خلفها ويهيل عليها التراب حتى تستوي بالأرض.

وقال ابن عباس : كانت الحامل إذا قربت ولادتها حفرت حفرة فتمخضت على رأس الحفرة ، فإذا ولدت بنتا رمت بها في الحفرة ، وإذا ولدت ولدا حبسته. وكانوا يفعلون ذلك لخوف لحوق العار بهم من أجلهنّ ، أو الخوف من الإملاق ، كما قال تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) [الأنعام : ١٥١] وكانوا يقولون : إنّ الملائكة بنات الله فألحقوا البنات به فهو أحق بهنّ ، وكان صعصعة بن ناجية ممن منع الوأد وفيه افتخر الفرزدق في قوله (١) :

ومنا الذي منع الوائدات

وأحيا الوئيد فلم توأد

(سُئِلَتْ بِأَيِ) أي : بسبب أيّ (ذَنْبٍ) يا أيها الجاهلون (قُتِلَتْ) أي : استحقت به عندكم القتل ، وهي لم تباشر سوءا لكونها لم تصل إلى حدّ التكليف.

فإن قيل : ما معنى سؤالها عن ذنبها الذي قتلت به ، وهلا سئل الوائد عن موجب قتله لها؟ أجيب : بأن سؤالها وجوابها تبكيت لقاتلها نحو التبكيت في قوله تعالى لعيسى عليه‌السلام : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ) [المائدة : ١١٦]. وروي أنّ قيس بن عاصم «جاء إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ، إني وأدت ثمان بنات كنّ لي في الجاهلية. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أعتق عن كل واحدة منهنّ رقبة. قال : يا رسول الله ، إني صاحب إبل؟

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو في ديوان الفرزدق ١ / ١٥٤.

٥٥٨

فقال له صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أهد عن كل واحدة منهنّ بدنة إن شئت» (١). وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ المرأة التي تقتل ولدها تأتي يوم القيامة متعلقا ولدها بيدها ملطخا بدمائه فيقول : يا رب هذه أمّي وهذه قتلتني»(٢).

(وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) أي : فتحت بعد أن كانت مطوية ، والمراد صحف الأعمال التي كتبت الملائكة فيها أعمال العباد من خير وشر تطوى بالموت ، وتنشر في القيامة ، فيقف كل إنسان على صحيفته فيعلم ما فيها فيقول : (ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) [الكهف : ٤٩]. وروي عن عمر أنه كان إذا قرأها قال : إليك يساق الأمر يا ابن آدم. وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يحشر الناس حفاة عراة» فقالت أمّ سلمة : كيف بالنساء؟ فقال : «شغل الناس يا أمّ سلمة». قالت : وما يشغلهم ، قال : «نشر الصحف فيها مثاقيل الذر ، ومثاقيل الخردل» (٣). وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بتخفيف الشين والباقون بتشديدها على تكرير النشر للمبالغة في تقريع العاصي وتبشير المطيع وقيل لتكرير ذلك من الإنسان.

(وَإِذَا السَّماءُ) أي : هذا الجنس كله أفرده لأنه يعلم بالقدرة على بعضه القدرة على الباقي. (كُشِطَتْ) أي : نزعت عن أماكنها كما ينزع الجلد عن الشاة والغطاء عن الشيء. قال القرطبي : يقال : كشطت البعير كشطا نزعت جلده ولا يقال سلخت لأنّ العرب لا تقول في البعير إلا كشطته أو جلدته ، والمعنى : أزيلت عما فوقها. وقال القرطبي : طويت.

(وَإِذَا الْجَحِيمُ) أي : النار الشديدة التأجج (سُعِّرَتْ) أي : أججت فأضرمت للكفار وزيد في إحمائها يقال سعرت النّاء وأسعرتها. روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أوقد على النار ألف سنة حتى احمرّت ، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت ، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودّت فهي سوداء مظلمة» (٤) واحتج بهذه الآية من قال : النار مخلوقة الآن لأنه يدل على أنّ سعيرها معلق بيوم القيامة. وقرأ نافع وابن ذكوان وعاصم بتشديد العين والباقون بتخفيفها.

(وَإِذَا الْجَنَّةُ) أي : البستان ذو الأشجار الملتفة والرياض المعجبة (أُزْلِفَتْ) أي : قرّبت لأهلها ليدخلوها. قال الحسن : إنهم يقربون منها لا أنها تزول عن موضعها. وقال عبد الله بن زيد : زينت والزلفى في كلام العرب القربة.

وقوله تعالى : (عَلِمَتْ نَفْسٌ) جواب إذا أوّل السورة وما عطف عليها ، أي : علمت كل نفس من النفوس وقت هذه المذكورات وهو يوم القيامة ، فالتنكير فيه مثله في تمرة خير من جرادة ، ودلالة هذا السياق للهول على ذلك يوجب اليقين فيه (ما) أي : كل شيء (أَحْضَرَتْ) من خير وشر.

روي عن ابن عباس وعمر أنهما قرأا فلما بلغا (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) قالا : لهذا

__________________

(١) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى ٨ / ١١٦ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ٧ / ١٣٤ ، والقرطبي في تفسيره ١٩ / ٢٣٣.

(٢) أخرجه القرطبي في تفسيره ١٩ / ٢٣٤.

(٣) أخرجه القرطبي في تفسيره ١٩ / ٢٣٤.

(٤) أخرجه الترمذي في صفة جهنم حديث ٢٥٩١ ، وابن ماجه حديث ٤٣٢٠ ، والمنذري في الترغيب والترهيب ٤ / ٤٦٤ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٣٩٤٨٣.

٥٥٩

أجريت القصة. قال الرازي : ومعلوم أنّ العمل لا يمكن إحضاره فالمراد إذن ما أحضرته في صحائفها ، أو ما أحضرته عند المحاسبة وعند الميزان من آثار تلك الأعمال. وعن ابن مسعود : أنّ قارئا قرأها عنده ، فلما بلغ (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) قال : واقطع ظهراه.

(فَلا أُقْسِمُ) لا مزيدة ، أي : أقسم (بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ) هي النجوم الخمسة زحل والمشتري والمرّيخ والزهرة وعطارد تخنس بضم النون ، أي : ترجع في مجراها وراءها بينا نرى النجم في آخر البرج إذ كرّ راجعا إلى أوّله ، وتكنس بكسر النون تدخل في كناسها ، أي : تغيب في المواضع التي تغيب فيها فخنوسها رجوعها ، وكنوسها اختفاؤها تحت ضوء الشمس. وقيل : هي جميع الكواكب تخنس بالنهار فتغيب عن العيون وتكنس بالليل ، أي : تطلع في أماكنها كالوحش في كنسها.

(وَاللَّيْلِ) أي : الذي هو محل ظهور النجوم وزوال خنوسها وذهاب كنوسها (إِذا عَسْعَسَ) قال البغوي : قال الحسن : أقبل بظلامه. وقال آخرون : أدبر ، تقول العرب عسعس الليل وسعسع إذا أدبر ، ولم يبق منه إلا القليل.

(وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) أي : امتدّ حتى يصير نهارا بينا ، يقال للنهار إذا زاد تنفس ، ومعنى التنفس : خروج النسيم من الجوف ، وفي كيفية المجاز قولان : الأوّل : أنه إذا أقبل الصبح أقبل بإقباله روح ونسيم ، فجعل ذلك نفسا له على المجاز ، فقيل : تنفس الصبح. الثاني : أنه شبه الليل المظلم بالمكروب المحزون الذي حبس بحيث لا يتحرّك ، فإذا تنفس وجد راحة فهنا لما طلع الصبح فكأنه تخلص من ذلك الحزن ، فعبر عنه بالتنفس.

وقوله تعالى : (إِنَّهُ) أي : القرآن (لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) هو المقسم عليه ، والمعنى : إنه لقول رسول عن الله تعالى كريم على الله تعالى ، أي : انتفت عنه وجوه المذامّ كلها ، وثبت له وجوه المحامد كلها ، وهو جبريل عليه‌السلام. وأضاف الكلام إليه لأنه قاله عن الله عزوجل.

(ذِي قُوَّةٍ) أي : شديد القوى. روى الضحاك عن ابن عباس أنه قال : من قوّته قلعه مدائن قوم لوط بقوادم جناحه فرفعها إلى السماء ثم قلبها ، وأبصر إبليس يكلم عيسى عليه‌السلام على بعض عقاب الأرض المقدّسة فنفخه بجناحه نفخة ألقاه إلى أقصى جبل بالهند ، وصاح صيحة بثمود فأصبحوا جاثمين ، ويهبط من السماء إلى الأرض ويصعد في أسرع من الطرف.

(عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ) أي : الملك الأعلى المحيط عرشه بجميع الأكوان الذي لا عند في الحقيقة إلا له ، وهو الله سبحانه وتعالى. وقوله تعالى : (مَكِينٍ) أي : ذي مكانة متعلق به عند ، أي : ذي منزلة ومكانة ليس عندية جهة بل عندية إكرام وتشريف كقوله تعالى : «أنا عند المنكسرة قلوبهم» (١) وقيل : قويّ في أداء طاعة الله تعالى وترك الإخلال بها.

(مُطاعٍ ثَمَ) أي : في السموات. قال الحسن : فرض الله تعالى على أهل السموات طاعة جبريل عليه‌السلام كما فرض على أهل الأرض طاعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال ابن عباس : «من طاعة جبريل عليه‌السلام الملائكة أنه لما أسري بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال جبريل عليه‌السلام لرضوان خازن

__________________

(١) أخرجه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٦ / ٢٩٠ ، وعلي القاري في الأسرار المرفوعة ١١٧ ، ٣٧٦ ، والعجلوني في كشف الخفاء ١ / ٢٣٤ ، ٤٤٩.

٥٦٠